فيروز.. حين يوحّد الصوت ما فرقته الحرب

في زمنٍ احترقت فيه الأرواح قبل الحجارة، وذابت فيه وجوه الوطن في نار الانقسامات، كان هناك صوتٌ واحد، نقيّ، صافٍ يمرّ فوق الركام، بين الرصاص، ويصل إلى قلب كل بيت لبناني دون أن يُسأل عن طائفته أو انتمائه.

إنها فيروز… الصوت الذي لم تُخمده الحرب، بل صار لحظة الهدنة اليومية التي يتشاركها الجميع، حتى من خلف المتاريس.

في 13 أبريل 1975، اشتعلت الحرب الأهلية اللبنانية، وبدأت بيروت تُقسم إلى شرقية وغربية، إلى خطوط تماس وخنادق، إلى ميليشيات متنازعة إذاعاتها لا تتحدث إلا بلغة الانحياز والتحريض… إلا واحدة: فيروز.

رغم أن كل شيء كان يخضع للفرز، حتى الهواء، فإن صوت فيروز كان يعبر الحواجز دون بطاقة هوية، دون تصريح. كان يُبث من جميع الإذاعات المتنازعة في الصباح، دون استثناء، كأنه اتفاق غير معلن، أو ربما هدنة روحية.

أصبحت أغانيها مثل “كان الزمان وكان”، و”زهرة المدائن”، و”بحبك يا لبنان”، حالة صباحية لا تمس، تعلو فوق ضجيج السياسة والدم. كانت فيروز تصحب جميع اللبنانيين في أول لحظات النهار، بجميع الأطياف والأديان، بمن تبقى من الحالمين ومن صاروا رهائن في أوطانهم إلى السلام والحب بعيداً عن الحرب والتفرقة.

أحد سكان بيروت آنذاك قال:
“نستيقظ على صوت القصف، فنرفع الصوت أكثر لنسمع فيروز. كانت تلك الدقائق هي الوحيدة التي نشعر فيها أننا لا نزال أحياء، أننا لا نزال نحب”

ربما لم تمنع فيروز الحرب، لكنها بالتأكيد منعت الموت الروحي عن أمة كادت تُمحى. غنت فوق خطوط النار، لا للسياسة، بل للناس، للبنان، للطفولة، للمحبة.

وإن سألت لبنانيًا عن تلك الأيام، سيقول لك بحنين موجع:
“ما كنّا نعرف شو عم بصير، بس كنا نعرف إنو لما تسمع صوت فيروز… يعني بعد في أمل”

اقرأ أيضًا: فيروز أيقونة الفن التي تعيش في قلب الزمن

صوتها كان السلام الهش الجميل في قلب الفوضى، وكان الشيء الوحيد الذي اتفق عليه الجميع، في زمن كان كل شيء فيه في حالة خلاف… حتى الوطن نفسه.

فيروز لم تكن فقط فنانه. كانت جسرًا صامدًا فوق هاوية الانقسام، كانت وطنًا صغيرًا في حنجرة.

وما يزال صوتها حتى اليوم، حين يصدح، يوقظ في اللبنانيين ذكرى ذلك الاتفاق السريّ الوحيد.. أن الجمال، وإن كان هشًا، أقوى من الحرب.

ليما الملا