في زمنٍ لم يعد فيه رأس المال وحده مقياسًا للقيمة، يبدو أن مجلة «فوربس»، التي كانت يومًا مرجعًا مقدّسًا في عالم المال والأعمال، قررت أن تُعيد تعريف “الثراء”. لكن هذه المرة، ليس عبر الشركات العملاقة أو البورصات، بل عبر منصّات التواصل الاجتماعي.
المجلة التي لطالما احتفت برجال الأعمال، المستثمرين، والروّاد الذين أسسوا إمبراطوريات من الصفر، صارت اليوم تحتفي بأسماء يعرفها الجيل الجديد من خلال القصص اليومية والمنشورات المموّلة.
«فوربس التي كانت للأثرياء، أصبحت للمؤثرين» — عبارة تختصر تحوّلًا اجتماعيًا واقتصاديًا في آنٍ واحد.
في النسخ الحديثة من فعالياتها، لم تعد مقاعد المتحدثين محجوزة لأصحاب المصانع والبنوك، بل لأصحاب العلامات التجارية الشخصية — صُنّاع الصورة، لا المنتج. شخصيات من عالم الجمال والموضة وصناعة المحتوى تتصدّر المنصّة التي كانت يومًا حلمًا لرجال الاقتصاد الكلاسيكي.
قد يبدو هذا التحول طبيعيًا في عصرٍ باتت فيه المتابعات الرقمية أكثر تأثيرًا من الأسهم المالية، لكن السؤال الأعمق هو:
هل يعكس هذا التبدّل تطورًا في مفهوم النجاح، أم انزلاقًا نحو تسليع الشهرة؟
واقع اليوم يقول إن الاقتصاد لم يعد يُقاس فقط بالعملة الورقية، بل بالانتباه — بالـ “Attention Economy” كما يسميه خبراء السلوك الرقمي. فصانع المحتوى الناجح يستطيع تحريك الأسواق عبر إعلانٍ واحد أكثر مما يفعل بعض مديري التسويق في شركات كبرى. بهذا المعنى، أصبحت “الثروة” مهارة في بناء الجمهور، لا في إدارة رأس المال.
لكن خلف هذا البريق، هناك مفارقة مثيرة للسخرية:
«فوربس» التي طالما تغنّت بالتحليل المالي والإنجازات الملموسة، تبدو اليوم كمن يلاحق الترند، لا القيمة.
فعوضًا عن قوائم “أغنى رجال التكنولوجيا” أو “أكثر الشركات نموًا”، بتنا نقرأ عن “المؤثرين الأكثر تأثيرًا”، وعن حفلات تكريمية تتخللها جلسات تصوير أكثر مما تتخللها بيانات مالية.
طبعًا، لا يمكن إنكار أن بعض هؤلاء المؤثرين بنوا علامات تجارية حقيقية وحققوا أرباحًا ضخمة بذكاء استثماري ملفت. لكن في المقابل، تُطرح تساؤلات مشروعة حول المعايير الجديدة:
هل أصبح الظهور هو الشرط الأول للنجاح؟ وهل يمكن أن تُقاس الريادة بعدد المتابعين لا بعدد فرص العمل التي تُخلق؟
ما يحدث مع «فوربس» يمثّل صورةً دقيقة لعصرٍ تغيرت فيه الأولويات. النجاح اليوم ليس بالضرورة نتيجة إنتاج أو ابتكار، بل نتيجة رواية مقنعة — قصة تُباع وتُشارك آلاف المرات على الإنترنت. ومن يملك القدرة على صياغة هذه القصة بإتقان، يملك مكانه في قوائم الشهرة الجديدة، ولو لم يملك شركة واحدة.
إنها ليست نهاية فكرة الريادة، لكنها بالتأكيد إعادة تعريفٍ لها.
في عالم تسوده الشاشات الصغيرة، تحوّلت السلطة الاقتصادية إلى سلطة ناعمة تمارسها الصورة والكلمة، لا المصنع والبنك. و«فوربس» — التي طالما كانت مرآة لأصحاب القرار — لم تعد تمثل فقط واقع السوق، بل واقع الزمن الرقمي الذي بات فيه النفوذ يُقاس بمدى الانتشار.
ويبقى السؤال الجدلي المفتوح أمام كل متابع: هل ما نعيشه اليوم هو ديمقراطية جديدة للنجاح، أم مجرد “إعادة تغليف” للشهرة على شكل إنجاز؟
اقرأ أيضًا: الجدل حول قائمة متحدثات “قمة فوربس للمرأة”… ورأي الإعلامية رشا الخطيب يفتح النقاش من جديد
ليما الملا